السبت، 28 يوليو 2018

مقدمة كتاب مصادر الأناجيل وإيجاز تاريخي في البحث عن مصادر الأناجيل

المقدمة

هذا الكتاب هو محاولة جديدة، وأرجو أن تكون الأخيرة، في البحث عن المصادر التي اعتمد عليها كتبة الأناجيل لكتابتها، فعلى الرغم من المحاولات الكثيرة للكشف عن مصادر الأناجيل خلال القرون الماضية إلا أنها لم تستطع التوصل لنتيجة حاسمة في تحديد مصادرها، نتيجة لعوامل عدة، منها فقدان النسخ الأصلية لها، والجهل الحقيقي بتاريخ تأليفها وكاتبيها، وعدم فهم الهدف من تأليفها وطريقة كتابتها، وكذلك عدم الفهم الدقيق لطبيعة علاقتها بالعهد القديم سواء في الأُصول أو النصوص، وأخيراً الجهل بالطوائف التي كانت تؤمن بالمسيح كنبي ورسول وليس كإله وابن إله مثل الآريوسيين وغيرهم.
لهذا سعيت في هذا الكتاب لتجاوز الكثير من هذه العوامل واعتمدت في الكشف عن تلك المصادر بالبحث في علاقة الأناجيل بالعهد القديم سواء فيما يتعلق في الأُصول والأُسس التي قام عليها العهد القديم، أو في النصوص التي اقتبسها كتبة الأناجيل منه، كما قمت بدراسة معنى كلمة إنجيل وطريقة كتابة الأناجيل والهدف من كتابتها، لحسم مسألة الكيفية التي كتبت فيها، إن كانت عن طريق الوحي وبسوق من الروح المقدس أم أنها كتبت لهدف معين بعيدا عن الوحي والروح المقدس.
والكتاب ينقسم الى خمسة أقسام، تمهيد إيجاز تاريخي في البحث عن مصادر الأناجيل وثلاثة فصول وخاتمة، في التمهيد استعرضت جزء من تاريخ الأناجيل وأشهر المدارس التي بحثت عن مصادرها، مع ذكر بعض الأناجيل غير الأربعة.
وفي الفصل الأول قمت بتحديد أهم الأُصول والأُسس التي قام عليها العهد القديم من التوحيد الى عهود الرب مع بني إسرائيل ومقارنتها بالأُصول والأُسس التي قامت عليها الأناجيل.
وفي الفصل الثاني قمت بدراسة معنى مصطلح أو كلمة إنجيل، والهدف من كتابتها، وعلاقتها بكلمة الرب والوحي والروح المقدس، ثم تتبعت النصوص التي تضمنت كلمة إنجيل في رسائل العهد الجديد، من إنجيل متّى الى رؤيا يوحنا، وقمت بدراستها لمعرفة ما هو المقصود منها عندما يتم استعمالها من قِبَل مؤلفي العهد الجديد، وهل تعني الأناجيل الأربعة كما يظن أتباع الكنائس الطيبين، أم أنها تعني طريقة التبشير بيسوع من خلال منهج خاص سيتم الكشف عنه في هذا الكتاب!
في الفصل الثالث قمت بإظهار العلاقة بين كتبة الأناجيل ونصوص العهد القديم وطريقة كتابة الأناجيل، كما قمت بدراسة معظم النصوص التي اقتبسها كتبة الأناجيل من العهد القديم، ونظرأً لطوله وتشعب مواضيعه فقد قسمته الى عدة أقسام:
القسم الأول أظهرت وجود عدة نصوص منسوبة للعهد القديم وهي غير موجودة فيه.
القسم الثاني أظهرت وجود عدة نصوص أخطأ كتبة الأناجيل في نسبتها للأسفار المذكورة فيها في العهد القديم.
القسم الثالث أظهرت وجود عدة نصوص أخطأ كتبة الأناجيل في ذكر الأسماء والأعداد المكتوبة في العهد القديم.
القسم الرابع درست النصوص التي نسبت للعهد القديم مباشرة كنبوءات تحدثت عن يسوع وزمانه، وأظهرت أنها لم تكن تتحدث أو تتنبأ عنه!
القسم الخامس درست بعض الحوارات والمجادلات المكتوبة في الأناجيل والتي تم الاستشهاد خلالها بنصوص العهد القديم وأظهرت خطأ الاستشهاد بها.
القسم السادس درست الأناجيل من الناحية الموضوعية أو الحبكة القصصية، حيث بدأت بدراسة اسم يسوع مروراً بمعظم فترات حياته وانتهيت بالأقوال التي قيلت على لسانه، وأظهرت هناك أن كل فقرة في الأناجيل مقتبسة من العهد القديم، وليس هذا فحسب بل أثبت خطأ تلك الاقتباسات مقارنة بالعهد القديم وبما هو مكتوب في الأناجيل وقوانين إيمان الكنائس وكذلك مقارنة بالواقع الذي نعيشه، وخاتمة الكتاب تلخص النتائج التي توصلت إليها.
إيجاز تاريخي في البحث عن مصادر الأناجيل
الأناجيل الأربعة تعتبر الأساس الذي أقامت الكنائس المختلفة إيمانها عليه، وهي في ذات الوقت تعتبر من أهم المشاكل التي واجهت الكنائس خلال تاريخها الطويل، فبالإضافة للمشاكل الموجودة أصلاً في الأناجيل الاربعة، سواء المتعلقة بصفات يسوع وصفات أبيه والروح المقدس وتناقضها مع ما هو مكتوب عن الرب الواحد الإله الحق خالق السموات والأرض في العهد القديم، أو التناقض والاختلاف فيما بينها في القصص المذكورة فيها سواء في التسلسل التاريخي للأحداث أو في ذات القصص، بدءاً من نسب يسوع مروراً بركوبه على جحش وحمارة عند دخوله الى أُورشليم ومحاكمته وصلبه وقيامته وانتهاءاً بالكيفية التي ظهر فيها للتلاميذ، والتي أدت الى حدوث كل الانشقاقات بين الكنائس كما هو معلوم للجميع، أقول إن الأناجيل ذاتها كانت من أهم المشاكل التي واجهت الكنائس فقد تعرضت للمناقشة والنقد وذلك في محاولة للبحث عن حقيقة وجودها ومصادرها، وخاصة أن هذه الأناجيل ليس بينها واحد يُنسب ليسوع مباشرة، كما أن هذه الأناجيل كُتبت بعد فترة زمنية طويلة من صعود يسوع إلى السماء وهذه الفترة مختلف في تحديدها فإنجيلي متّى ومرقس يقال أنهما كتبا فيما بين سنة 50 وسنة 62 وإنجيل لوقا كتب فيما بين سنة 60 وسنة 62 وأعمال الرسل كتب قبل سنة 67 ورسائل بولس كتبت فيما بين سنة 50 وسنة 67، مع خلاف كبير حول كاتب رسالة العبرانيين! ورسالة يعقوب كتبت بين سنة 40 وسنة 62، ورسالتي بطرس يقال أنه كتبهما قبل صلبه سنة 67! ورسالة يهوذا يقال أنه كتبها بعد رسالة بطرس الثانية وقبل سنة 70، وأما يوحنا فيقال أنه كتب إنجيله ورؤيته ورسائله الثلاث فيما بين سنة 80 وسنة 98 بعد الميلاد، مع وجود خلاف على شخصية كاتبها إن كان هو يوحنا تلميذ يسوع أم شخص آخر!
وهذا يعني أن التلاميذ الأوائل لم يكن لديهم الأناجيل الأربعة، كما أنها لم تكتب بوصية من يسوع كما هو الحال مع أسفار موسى الخمسة التي إن لم يكتبها موسى نفسه كما يقول الكثير من الباحثين إلا أنه توجد عدة نصوص تأمر بني إسرائيل بكتابتها والمحافظة عليها، كما أن النسخ الأصلية لهذه الأناجيل مفقودة، والنسخ الموجودة تحمل الكثير من الأخطاء والاختلاف فيما بينها، سواء في الجانب اللغوي أو في الجانب النصي، بمعنى وجود فقرات في بعض النسخ وفقدانها في نسخ أُخرى كخاتمة إنجيل مرقس من الفقرة 9 الى الفقرة 20 في الإصحاح 16، ويقول الأب استفان شربنتييه في كتاب دليل الى قراءة الكتاب المقدس ترجمة الأب صبحي حموي اليسوعي الطبعة الرابعة الصادر عن دار المشرق بيروت، أن خاتمة إنجيل مرقس ليست صحيحة بل أُضيفت وهي من يد غير يد صاحب الإنجيل ولكنها قانونية!
أو وجود فقرات في بعض النسخ تدل على شرح وتفسير لبعض الفقرات في حين أُدرج هذا الشرح والتفسير في نسخ أُخرى كفقرات أصلية، ولم تستقر الأناجيل على النحو المطبوع الآن إلا في النسخ التي يقال أنها ترجع للقرن الرابع ميلادي وما يليه، كنسخة الفاتيكان وهي من النسخ التي لا تحتوي على نهاية إنجيل مرقس التي أشرت إليها سابقاً والنسخة السينائية والنسخة الأفرامية، لهذا فان الأب استفان شربنتييه في كتاب دليل الى قراءة الكتاب المقدس يقول: وفي مطلع القرن الخامس قاموا في بيزنطة بتحقيق جديد عمّ جميع الكنائس الناطقة باليونانية فقاموا بتوحيد نص الترجمات فمنذ سنة 382 ميلادية حرر القديس إيرونيمس النص اللاتيني، وأما النسخة السريانية والنسخة الأرمنية فإنهما ترقيان الى القرن الخامس، وفي سنة 1859 ميلادية عثر تيشندروف على المخطوطة السينائية ونُشرت المخطوطة الفاتيكانية، وهما المخطوطتان التي يستند إليهما النص الحالي للأناجيل.
ثم يقول: وبعد هذه المسيرة لم يعد ممكناً أن يخطر في بالنا هذه الفكرة الساذجة وهي أن التلاميذ سمعوا يسوع ودونوا أقواله وبعد العنصرة (العنصرة في التقليد الكنسي يقال عن حلول الروح المقدس في التلاميذ بعد خمسين يوماً من صلب يسوع) تأبطوا الأناجيل وأخذوا يبشرون بها العالمفالواقع أن يسوع جمع تلاميذه وأسس كنيسته، فالكنيسة موجودة قبل الأناجيل والكنيسة هي من كوّن الأناجيل وليس العكس.
لهذه الأسباب وغيرها قامت الكنائس بعدة أعمال لمنع انتشار هذه المعلومات بين أتباعها الطيبين، فقامت بمنع ترجمة الأناجيل الى اللغات المحلية للسكان، حتى أن الكنيسة الأرثوذكسية القبطية الى وقتنا هذا لم تسمح بنشر إنجيلها باللغة العربية التي يتكلم بها الأقباط، كما قامت الكنائس بمنع اقتناء الأناجيل وطباعتها إلا من خلال الكنائس ورجالها، وزاد الأمر حتى وصل الى منع الناس من قراءتها إلا بوجود رجال الكنائس، كما قامت الكنائس بعقد مجامع كنسية أضفت القداسة على الأناجيل بالقول أنها كُتبت بسوق من الروح المقدس، وأنها كلمة الإله والعهد الجديد للناس، مع علم الكنائس بما في الأناجيل الأربعة من تناقضات واختلافات، كما قامت الكنائس بتحديد الأناجيل التي تعتبرها قانونية ومقدسة ووضعت لذلك قانوناً يسمى قانون الكتب المقدسة وتمّ إقراره نهائياً في مجمع قرطاجة سنة 397 ميلادي، وبهذا قامت بحماية هذه الأناجيل من أي نقد أو مناقشة تحت طائلة قانون الهرطقة (او الحرم أو الشلح) الذي يعني حرمان الإنسان من كل حقوقه ومن ثم قتله بالصلب أو بالحرق، إن استطاعت الكنائس تنفيذ هذا القانون، فقامت الكنائس بقتل العشرات من الناس بتهمة ترجمة الأناجيل واقتنائها وتفسيرها، ويذكر ويل ديورانت (Will Durant) في كتاب قصة الحضارة أن الكنيسة الكاثوليكية قامت بقتل عشرين رجلاً وامرأة في يوم واحد بهذه التهمة، لا بل وصل الأمر بالكنيسة الى حرق عظام جون ويكلف بعد وفاته بأكثر من أربعين سنة لأنه قام بترجمة الأناجيل للغة الانجليزية لأنها لم تستطع قتله وهو حيّ!
ومع كل هذه الاحتياطات والقوانين والسلطان للكنائس إلا أنها لم تستطع أن توقف العقل الإنساني عن حرية التفكير ومناقشة كل المواضيع سواء المتعلقة بصفات يسوع وأُلوهيته أو الأناجيل ذاتها، ويُخبرنا التاريخ عن العشرات من رجال الكنائس الذين يؤمنون بما تقوله الكنائس عن يسوع من صفات إلهية ومع هذا لم يقبلوا ما قالته الكنائس وما أضفته على الأناجيل من أقوال وقوانين فنقرأ عن أُوسابيوس المتوفى سنة 340 ميلادية أنه رفض رسالة رؤيا يوحنا، والكنيسة السورية قامت بكتابة العهد الجديد وتسمى النسخة البسيطة وقامت بحذف رسالتي بطرس ورسالة يوحنا الثانية والثالثة ورؤيا يوحنا اللاهوتي ورسالة يهوذا.
وثيودر موبسيدستيا وهو من آباء الكنيسة كان ينكر بعض أسفار العهد الجديد وقد أُدين في المجمع المسكوني الخامس الذي عقد في القسطنطينية سنة 553 بعد الميلاد.
ومن ثم جاء مارتن لوثر فقام بحذف سبعة أسفار من العهد القديم التي تسميها الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية بالأسفار القانونية الثانية وهي سِفر طوبيا ويهوديت وتتمة سِفر أستير والحكمة ويشوع بن سيراخ وباروخ وتتمة سِفر دانيال والمكابيين الأول والثاني، ورجع الى العهد القديم المتداول بين اليهود أو ما يسمى بنسخة عزرا أو النسخة العبرانية، كما قام بحذف كتاب أعمال الرسل ورسالة رؤيا يوحنا اللاهوتي ورسالة يعقوب، إلا أنه تراجع عن ذلك فيما بعد، وكان يقول: إنني أقول بدون افتخار أنه منذ ألف سنة لم ينظف الكتاب أحسن تنظيفاً ولم يُفسر أحسن تفسيراً ولم يُدرك أحسن إدراكاً أكثر مما نظفته وفسرته وأدركته.
وبعد لوثر وقيام الثورة العلمية والصناعية وانتهاء سيطرة الأمراء والأباطرة وبالتالي انتهاء سيطرة الكنيسة في أُوروبا، وسقوط القسطنطينية واتصال الغرب بالشرق فيما بعد، والذي كان من نتائجه اكتشاف عشرات المخطوطات التي لم يكن أحد من الناس قد اطلع عليها سابقاً نتيجة لمنع الكنائس من البحث في المخطوطات التي تملكها، بدأ الحديث مجدداً عن مصادر الأناجيل وحقيقتها فقامت مدارس مختلفة في القرنين الماضيين تبحث في الأناجيل ككتب بعيداً عن كونها مقدسة ومحمية بقوانين الكنائس من المسّ بها ومن أشهر هذه المدارس:
1- مدرسة توبنجن Tubingen التي أسسها فردناند كريستيان باور
Ferdinand Christian Bauer في الفترة ما بين 1792- 1860 وقد خرجت هذه المدرسة بنتائج كثيرة من أهمها أن إنجيل يوحنا كتب في القرن الثاني.
2- مدرسة أوبسالا Uppsala التي تأسست في اسكندنافيا سنة 1945
وكان من النتائج التي خرجت بها هذه المدرسة هي القول أن الأسفار الخمسة الأولى لم يكتبها موسى وانما كتبت بعد ذلك بعدة قرون.
كما اعتبرت هذه المدرسة أن التقليد الشفهي، أي النصوص المتداولة شفهياً، أهم من التقليد المكتوب، أي الأناجيل، لأنها تعتقد أن أهل الشرق كانوا يعتمدون على نقل النصوص للأجيال التالية عن طريق النصوص المحفوظة شفاهاً وليس عن طريق النصوص المكتوبة.
3- مدرسة سيمنار يسوع Jesus Seminar التي تأسست في أمريكا وكان من أهم النتائج التي توصلت إليها هي أن 18% فقط من الأقوال المنسوبة ليسوع في الأناجيل كان قد قالها بالفعل، وبقية ما نُسب له من أقوال انما وضعها التلاميذ بعد صعوده لتلائم الظروف التي استجدت بعد انتشار أتباع الكنائس في بلاد كثيرة، كما أن هذه المدرسة لا تعترف بمعجزات يسوع المذكورة في الأناجيل.
4- مدرسة نقد الشكل أو النقد التاريخي للشكل Form History وهذه المدرسة ظهرت في نهاية الخمسينات من القرن العشرين، وهذه المدرسة تعتبر أن الأناجيل تتألف من وحدات وفصول صغيرة مستقلة وأنه تمّ ترويجها ونشرها بشكل مستقل كل على حدة، وأنها فيما بعد اتخذت شكل أنماط متنوعة من الكتابة والأدب الشعبي مثل الأساطير والحكايات والخرافات، ويقول ج. أ. لادد J.A.Ladd ان دراسة الأناجيل يجب ان تتم من خلال دراسة التقليد الشفهي الذي تمّ تناقله من فم الى فم وعندها يتم استعادة النصوص الأصلية للأناجيل، لأن لكل واحد من هذه النصوص المستقلة تاريخه الخاص به في الكنائس، ويقول ان إنجيل مرقس هو موجز تاريخي لأعمال يسوع، وهو مجسد بشكل كبير في إنجيلي متّى ولوقا، وهو ليس جزء من هذا التقليد ولكنه من اختلاق مرقس، وان استخدامه هذا الموجز كخيط روائي يمكن من خلاله تقوية العلاقة بين الجزئيات المنفصلة من التقاليد والنصوص المستقلة، وهذا يعني أن الإشارات التي تدل على التتابع الزمني والمكاني وما يماثلها في الأناجيل الأخرى انما هي إشارات غير أصيلة تاريخياً على الإطلاق وغير جديرة بالثقة، ويخرج بنتيجة لدراسته فيقول إننا لا نملك في الحقيقة سجل حياة أو سيرة حياة يسوع ولكن مجرد مجموعة من الحكايات والتعاليم المنفصلة التي تمّ ربطها معاً بأسلوب غير تاريخي وسطحي.
ويقول رودلف بولتمان وهو من كبار علماء هذه المدرسة أنه تمت دراسة الأناجيل لمدة تزيد عن أربعين سنة وتحليل الوحدات التي كتبت بموجبها الأناجيل وهم يسعون في دراسة النصوص الشفهية التي كانت سابقة لكتابة الأناجيل أو المصادر التي تأسست عليها، سواء كانت وثائق مكتوبة أو حلقات من النصوص أو التقليد المتكرر مثل التقليد ( Q ). وهذا التقليد يمثل مخطط تمهيدي يشرح كرازة يسوع أو تبشيره، ويعتبر أن هذا المخطط كان موجوداً قبل إنجيل مرقس نفسه، كما انه يدرس التتابع التاريخي في الروايات سواء منها التعليمية أو العاطفية أو غيرهما.
ويلخص الأستاذ رودلف بولتمان منهج هذه المدرسة بالقول انها تنظر الى الأناجيل باعتبارها تكونت من وحدات منفصلة تمّ جمعها وتحريرها على أيدي الكتبة فيما بعد لتتوافق مع الإيمان الذي استقرت عليه الكنائس والذي عُبّر عنه من خلال قوانين إيمان الكنائس لاحقاً.
5- مدرسة الاستعمال أو نظرية الاستعمال Utilization Theory
وهي مدرسة تعتمد على أن كتبة الأناجيل قد أخذوا من بعضهم البعض وان اختلفوا في تحديد من أخذ من الآخر فبعضهم يقول ان متّى هو الأصل لأنه كتب إنجيله بالعبرية أو الآرامية ثم جاء مرقس واعتمد عليه فيما كتب ثم جاء لوقا وأخذ منهما معظم ما كتبه في إنجيله، والبعض الآخر يقول ان مرقس هو من كتب إنجيله أولاً ثم اعتمد عليه متّى ولوقا عند كتابتهما لإنجيليهما، وأول من أشار الى هذه النظرية من الناحية التاريخية هو بابياس أسقف هيرا بوليس (70-155م) فقال وكلما أتى أحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم، عما قاله أندراوس أو بطرس، عما قاله فيلبس أو يعقوب أو يوحنا أو متّى أو أي أحد آخر من تلاميذ يسوع، لأنني لا أعتقد أن ما أحصل عليه من الكتب يفيدني بقدر ما يصل إليّ من الصوت الحيّ، الصوت الحيّ الدائم.
وفي القرن الثامن عشر 1778 قام بتلقفها G.E.Lessing وعدّلها سنة 1804 J.Echhorn ثم جاء جريسباش Griesbach، وفي سنة 1835 عدّل ليشمان Lachmann هذه النظرية وتبعه وليب Wilbe سنة 1838 ودافع عنها ب. بتلر B. Buttler.
وكان رأي الأكثرية في هذه المدرسة هو القول بان إنجيل مرقس هو الأصل لهذا سمي هذا التقليد ب Proto-Mark ويعقب الأب القمص تادرس يعقوب في كتاب مقدمة عامة في الأناجيل الأربعة على بعض مؤيديها الذين يقولون انها توافق قول القديس أبيفانيوس بان الأناجيل قد أُخذت من مصدر واحد بالقول ان القديس لا يقصد بهذا القول ان ذلك المصدر كان مصدراً شفهياً أو مصدراً مكتوباً وانما يقصد بالمصدر الروح المقدس!
6- مدرسة المصْدَرين أو نظرية المصدرين:
وهذه المدرسة أو النظرية هي الأكثر شيوعاً وكان من أوائل من نشرها هولتزمان Holtzmann سنة 1863 حيث تقول هذه المدرسة أن الأناجيل مع انها اعتمدت على بعضها البعض إلا انه يوجد مصدر آخر وهو التقليد أو النصوص الشفهية والتي يعبر عنها كما قلت سابقاً بالتقليد (Q).
ومما زاد البحث عن حقيقة الأناجيل ومصادرها اتساعاً هو اكتشاف مخطوطات لعشرات الأناجيل التي لم يكن أحد قد اطلع على نسخ منها سابقاً، والتي قد تكون موجودة في مكتبة الفاتيكان أو غيرها من المكتبات إلا أنها لم تكن متوافرة بين أيدي الباحثين لأن الكنائس رفضتها واعتبرتها منحولة أو غنوصية أو هرطوقية وكان يشير إليها بعض كبار رجال الكنائس الأوائل في كتاباتهم، فاكتشاف هذه المخطوطات جعل مجال البحث يزداد اتساعاً، وأهم ما يميز هذه الأناجيل انها كلها تتحدث عن يسوع باعتباره المسيح وأنه إله وابن إله وأنه صلب ومات ودفن وقام من الأموات! كما أنها جميعاً تستشهد بأقوال ليسوع وتتحدث عن نبوءات من العهد القديم باعتبار انه هو المقصود بها، وكان من ضمن هذه الأناجيل إنجيل باسم يهوذا الاسخريوطي والذي تم نشره في الولايات المتحدة مؤخراً وقد أثار ضجة كبيرة في العالم مما استدعى التوقف مرة أُخرى للبحث عن حقيقة هذه الأناجيل الاربعة ومصادرها، وفيما يلي أهم الأناجيل المكتشفة حديثاً:
1- إنجيل بطرس وترجع مخطوطته الى القرن الثاني واكتشفت مخطوطته في مصر سنة 1887 بأخميم، ويبدأ من محاكمة يسوع وينتهي بظهوره للتلاميذ عند بحيرة طبرية.
2- إنجيل الحقيقة ويرجع للقرن الثاني ويتحدث فيه عن صلب يسوع وإعلان يسوع حقيقة أبيه وهو على الصليب.
3- إنجيل ماركيون ويسمى كذلك إنجيل الرب وفيه تفصيل محاكمة يسوع وصلبه كما هي في الأناجيل الأربعة.
4- حكمة يسوع المسيح ويبدأ بالحديث عن يسوع بعد قيامته من القبر.
5- إنجيل فيلبس ويرجع للقرن الثاني ووجدت نسخة منه مترجمة للغة القبطية في نجع حمادي، وفيه حديث عن صلب يسوع.
6- إنجيل برثلماوس وترجع مخطوطته الى القرن الثاني ويبدأ بالحديث عن يسوع بعد قيامته من القبر.
7- إنجيل يعقوب، واكتشفت نسخة منه في نجع حمادي سنة 1945، وفيه حديث عن الصليب وأن من لا يؤمن بصلب يسوع فلن يخلص.
8- إنجيل الاثني عشر، ونسخته ترجع للقرن الثاني، وفيه حديث عن يسوع باعتباره ابن الإله الذي يجلس عن يمينه.
9- إنجيل الحكمة ويرجع للقرن الثالث ويبدأ الحديث فيه عن قيامة يسوع وصعوده الى السماء.
10- إنجيل نيقوديموس ويرجع للقرن الثاني وينقسم الى جزئين، الأول يتحدث عن محاكمة يسوع، والثاني يتحدث عن نزول يسوع الى الجحيم.
11- إنجيل توما وهو عبارة عن مائة وأربع عشرة فقرة، ويبدأ بهذه الفقرة: هذه هي الكلمات الخفية التي نطق بها يسوع الحي ودونها يهوذا توما الذي يقال له التوأم، وقال ان كل من يكتشف تأويل هذه الأقوال لن يذوق الموت!
ثم يبدأ بسرد الكثير من الأقوال والتي في معظمها تتفق مع نصوص الأناجيل الأربعة.
12- إنجيل يهوذا الاسخريوطي وقد اكتشف هذا الانجيل في مصر باللغة القبطية، وإن أشار الى وجوده عدد من آباء الكنائس في القرن الثاني، وقد قامت إحدى الجمعيات في الولايات المتحدة بنشره مما أدى الى قيام ثورة جديدة حول الأناجيل والمصادر التي تأسست عليها.
كما ان الاكتشافات الأثرية في الأرض المقدسة بدأت تساهم في الكشف عن حقائق جديدة تتعلق بيسوع ذاته، ففي الثمانينات من القرن الماضي تم اكتشاف قبر في الأرض المقدسة مكتوب عليه يسوع بن يوسف، وكان من عادات اليهود أن يحفظوا عظام الأموات الذين من نفس العائلة في إناء حجري ومن ثم يقومون بكتابة أسماء الأموات الذين دفنوا في القبر وقد وجد مكتوباً على هذا الإناء (وقد ترجم اسم هذا الإناء باللغة العربية عضاءة) أسماء يسوع بن يوسف ومريم ويهوذا بن يسوع، وهذا الاكتشاف فتح الطريق للحديث مرة أُخرى عن القصص التي تتحدث عن نجاة يسوع من الصلب وزواجه بمريم المجدلية وولادة أطفال لهما، وهو ما دفع دان براون الى كتابة قصته الشهيرة شيفرة دافنشي التي يقول فيها ان يسوع كان متزوجاً بمريم المجلية وأنه رزق منها بطفلة عاشت في فرنسا وهذه البنت تزوجت ورزقت بذرية عبر السنين وهم من يعبر عنهم بالكأس المقدسة في التاريخ الكنسي، وهذه القصة رغم معارضة الكنائس لها إلا انه بيع منها ملايين النسخ وترجمت للعديد من اللغات ومن ثم تحولت الى فيلم شاهده عشرات الملايين من الناس في مختلف القارات.
من كل ما سبق نجد أن البشرية في ضميرها وعقلها، حتى الكثير من رجال الكنائس، لم تستسلم لما تنادي به الكنائس من أقوال تتعلق بيسوع كمسيح يحمل صفات إلهية تجعل منه إلهاً يُعبد من دون الرب الواحد خالق السموات والأرض، ونهايته معلقاً على الصليب، أو بالأناجيل ذاتها باعتبارها وحياً من السماء وأنها مكتوبة بسوق من الروح المقدس، فنشأت المدارس السابقة وغيرها الكثير للبحث عن حقيقة الأناجيل والمصادر التي كتبت منها.
ومع تقديري لهذه الجهود العلمية في البحث إلا أنني أجد أن تلك المدارس غابت عنها عدة حقائق مهمة جداً أفقدها القدرة على حسم الأمر في مصادر الأناجيل، وهذه الحقائق هي:
الحقيقة الأولى وهي الجهل العميق بالطوائف التي ظهرت عبر التاريخ وكانت تؤمن بالمسيح كنبي من الأنبياء وأنه لا يحمل أي صفات إلهية وهذه الطوائف كانت متواجدة عبر التاريخ، وكان من أعظمها الطائفة التي تبعت آريوس، والتي كانت تسيطر على معظم البلاد في العصور القديمة، فقد سيطرت على روما والقسطنطينية والإسكندرية وغيرها من المدن، وتجلت قوتها وانتشارها في القرون الستة الأولى بحيث استطاعت أن تُنشئ دولتان عظيمتان هما دولة القوط ودولة الفاندال وبقيتا حتى القرن السابع، فهذه الطائفة، وباقي الطوائف، على الرغم من انتشارها وقوتها إلا أن الكنائس استطاعت أن تخفي كل أو معظم أقوالها والكتب التي كانت تؤمن بها، وما يستطيع الباحث أن يجده عنهم هو مجموعة قليلة من الأقوال ينقلها عنهم خصومهم من رجال الكنائس، وهؤلاء لا أظن أنهم سينقلون أقوالهم بأمانة!
فالجهل بتاريخ هذه الطوائف أفقد الباحثون أهم المصادر التي كانت ستساعدهم في الكشف عن المصادر التي اعتمد عليها كتبة الأناجيل والهدف من كتابتهم لها.
الحقيقة الثانية وهي المقارنة بين الأصول والأُسس التي قامت عليها الأناجيل والأُصول والأُسس التي قام عليها العهد القديم، لان الأصول والأسس إذا اتفقت فهو من أكبر الأدلة على وحدة المصدر وإذا اختلفت فهذا يعني اختلاف المصادر.
الحقيقة الثالثة وهي كلمة إنجيل ومعناها، والهدف من كتابة الأناجيل، فاسم الكتاب والهدف منه يشير الى المصدر الذي اعتمد عليه مؤلفه، فوجود كتب أُخرى تسمى أناجيل، أو بمعنى أدقّ بشارات تتحدث عن يسوع، يشير الى أنها جميعاً كتبت في ظروف معينة ولغايات معينة، وأنها كلها تشترك في هدف واحد وتأخذ من مصادر متشابهة، لأنه كما قلت سابقاً أن جميع الأناجيل التي رفضتها الكنائس كانت تؤمن بأن يسوع يحمل صفات إلهية وأنه صلب ومات وقام!
الحقيقة الرابعة وهي العلاقة بين الأناجيل والعهد القديم، ودراسة النصوص المستشهد بها والمقتبسة في الأناجيل من العهد القديم ومقارنتها بالنصوص الأصلية وكذلك مقارنتها بما هو مكتوب في الأناجيل عن يسوع سواء فيما يتعلق بحياته وصفاته، وغيره من شخصيات الأناجيل، أو بالتسلسل التاريخي للأحداث.
إن نشوء هذه المدارس في مجتمعات تسيطر عليها الكنائس، أو كانت تسيطر عليها، جعلها تنظر للأناجيل باعتبارها كتباً تاريخية مستقلة عن العهد القديم، وأن التشابه بين الأناجيل راجع لتأثير بعضها ببعض، وأن الاختلاف بينها يرجع لعوامل شخصية لكل كاتب، فبدأت في البحث عن المصادر التي تأسست عليها الأناجيل بعيداً عن هذه العلاقة، فمنها من قال انه كانت توجد نصوصاً سابقة لهذه الأناجيل هي التي اعتمد عليها كتبة الأناجيل ومنهم من قال ان المصدر الأول هو إنجيل متّى ومنهم من قال ان إنجيل مرقس هو الأساس، كما سبق شرحه، في حين كان الواجب على تلك المدارس التوجه لدراسة نصوص العهد القديم المستشهد بها والمقتبسة في الأناجيل ومقارنتها بالنصوص الأصلية لمعرفة دقة النقل، ومدى مصداقية القصص التي وضعت في سياقها وتوافقها التاريخي، ومعرفة صحة الاستنتاجات التي استوحاها كتبة الأناجيل منها، للوصول للمصادر التي اعتمد عليها كتبة الأناجيل.
من هنا أجد أن الواجب على الباحث عن مصادر الأناجيل أن يبدأ بدراسة هذه الحقائق كي يستطيع الوصول للمصادر التي اعتمد عليها كتبة الأناجيل، وإن كانوا قد تلقوها عن طريق الوحي أو بسوق من الروح المقدس، أم أنهم كتبوها بناء على منهج وطريقة في إثبات ما كانوا يؤمنون به من صفات ليسوع، وما كانوا يتناقلونه فيما بينهم من أحداث عن حياته.
لهذا سيكون منهجي في هذا الكتاب هو دراسة هذه الحقائق باستثناء الحقيقة الأولى وهي دراسة الطوائف التي كانت تؤمن بالمسيح ابن مريم كنبي ورسول من بني إسرائيل، فهذه ستظل معضلة الى أن يتم الكشف عن الوثائق المتعلقة بها سواء عن طريق نشر كتب تلك الطوائف التي تحتفظ بها الفاتيكان وغيرها من الكنائس، أو اكتشافها في المستقبل في بعض الأماكن الأثرية ونشرها كما حدث مع مخطوطات نجع حمادي ومخطوطات البحر الميت وغيرها، والى ذلك الوقت وأرجو أن يكون قريباً علينا البحث عن مصادر الأناجيل من خلال الحقائق المتوافرة لدينا والتي سبق الحديث عنها.
نادر عيسى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق